فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



رواه البخارِيّ والدارقطنِيّ.
الرابعة قوله تعالى: {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة.
فأمّا ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سدّ الجَوْعة وسكَّن الظّمأ، فمندوب إليه عقلًا وشرعًا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يُضعف الجسد ويُميت النفس، ويُضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل.
وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظٌّ من بَرٍّ ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرِمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.
وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه.
قال ابن العربيّ: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطّعمان.
ثم قيل: في قِلّة الأكل منافع كثيرة؛ منها أن يكون الرجل أصح جسمًا وأجود حِفظًا وأزكى فهما وأقل نومًا وأخف نفسًا.
وفي كثرة الأكل كَظَّ المعدة ونتن التُّخْمة، ويتولّد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل.
وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء.
وقد بين النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانًا شافيًا يُغنِي عن كلام الأطباء فقال: «ما ملأ آدميٌّ وعاء شرًا من بطن بحسْب ابن آدم لُقيمات يقمن صُلْبَه فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلث لنفسَه» خرّجه الترمذيّ من حديث المِقْدام بن مَعْدِي كرِب.
قال علماؤنا: لو سمع بُقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة.
ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصرانِيّ حاذق فقال لعليّ بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان.
فقال له عليّ: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا.
فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا}.
فقال النصرانِيّ: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب.
فقال عليّ: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة.
قال: ما هي؟ قال: «المعِدة بيت الأدواء والحِمْيَةُ رأسُ كلّ دواء وأعط كل جسد ما عوّدته» فقال النصرانِيّ: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبًّا.
قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصفٌ دواءٌ ونصف حِمْية.
فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصَحّ، وإلاّ فالحِمية به أولى؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحِمية.
ولقد تنفع الحِمية مع ترك الدواء.
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصل كل دواء الحِمية» والمعنيّ بها والله أعلم أنها تغني عن كلّ دواء؛ ولذلك يقال: إن الهند جُلّ معالجتهم الحِمية، يمتنع المريض عن الأكل والشرب والكلام عدّةَ أيام فيبرأ ويصح.
الخامسة روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعًى واحد» وهذا منه صلى الله عليه وسلم حضُّ على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبُلْغَة.
وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته.
كما قال قائلهم:
تكفيه فِلْذةِ كبْد إن أَلمّ بها ** من الشِّواء ويُرْوي شُرْبَهُ الغُمَرُ

وقالت أُمُّ زَرْع في ابن أبي زرع: ويُشبعه ذراعُ الجفْرَة.
وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل:
فإنك إن أعطيتَ بطنك سُؤْلَه ** وفرجَك نالا مُنتهى الذَّمّ أجمعا

وقال الخَطّابيّ: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ يأكل في مِعًى واحد» أنه يتناول دون شبعه، ويؤثِر على نفسه ويُبقي من زاده لغيره؛ فيقنعه ما أكل.
والتأويل الأوّل أولى والله أعلم.
وقيل في قوله عليه السلام: «والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقلّ أكلًا من مؤمن، ويُسلم الكافرُ فلا يَقِلّ أكله ولا يزيد.
وقيل: هو إشارة إلى معيَّن.
ضاف النبيّ صلى الله عليه وسلم ضيفٌ كافر يقال: إنه الجَهْجَاه الغِفارِيّ.
وقيل: ثُمَامة بن أثَال.
وقيل: نَضْلة بن عمرو الغِفَاريّ.
وقيل: بَصْرة بن أبي بصرة الغِفاريّ.
فشرب حِلاَب سبع شياهٍ، ثم إنه أصبح فأسلم فشرِب حلاب شاةٍ فلم يَستتمّه؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك.
فكأنه قال هذا الكافر. والله أعلم.
وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوِّي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مُظلِمًا بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تَثْلِط.
واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقيل: حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح.
وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النَّهِم: يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغنامًا.
وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء.
والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا مِعًى واحد؛ فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثاله.
والمِعَى في هذا الحديث هو المعدة.
السادسة: وإذا تقرّر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسلُ اليد قبل الطعام وبعده؛ لقوله عليه السلام: «الوضوء قبل الطعام وبعده بركة» وكذا في التوراة.
رواه زَاذَان عن سَلْمان.
وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة.
والاقتداء بالحديث أوْلى.
ولا يأكل طعامًا حتى يعرف أحارًّا هو أم باردًا؟ فإنه إن كان حارًّا فقد يتأذّى.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أبْرِدُوا بالطعام فإن الحارّ غيرُ ذي بركة» حديث صحيح.
وقد تقدّم في البقرة.
ولا يشمّه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغّر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يُعَدّ شَرِها.
ويُسمّي الله تعالى في أوّله ويحمده في آخره.
ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منْعًا لهم من الأكل.
وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها.
وسيأتي بعضها في سورة هود إن شاء الله تعالى.
وللشراب أيضًا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله».
السابعة: قوله تعالى: {وَلاَ تسرفوا} أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشُّرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبّط المعدة، ويثبّط الإنسان عن خدمة ربّه، والأخذِ بحظه من نوافل الخير.
فإن تعدّى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه حُرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه.
روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جُحَيْفَة عن أبيه قال: أكلت ثريدًا بلحم سمين، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أتَجشَّى؛ فقال: «اكفف عليك من جُشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شِبَعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة» فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدّى لا يتعشى، وإذا تعشَّى لا يتغدّى.
قلت: وقد يكون هذا معنى قولِه عليه السلام: «المؤمن يأكل في مِعًى واحد» أي التام الإيمان؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم.
وقال ابن زيد: معنى {وَلاَ تَسْرِفُوا} لا تأكلوا حرامًا.
وقيل: «مِن السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، خرّجه ابن ماجه في سننه.
وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع.
وكل ذلك محظور.
وقال لقمان لابنه: يا بنيّ لا تأكل شبعًا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله.
وسأل سَمُرة بن جُنْدُب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشِم البارحة.
قال: بشما فقالوا: نعم.
قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه.
وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسِمًا في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة.
فقيل لهم: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرّم عليكم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافًا تجعله على فرجها وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية {خذوا زينتكم عند كل مسجد} أخرجه مسلم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل وذكر الحديث زاد في رواية أخرى عنه فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا.
وقال مجاهد: كان حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجًا أو معتمرًا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول من يعيرني مئزرًا فإن قدر عليه وإلا طاف عريانًا فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون خذوا زينتكم عند كل مسجد.
وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس وهم قريش وأحلافهم فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها أي جعلها حرامًا عليه فلذلك قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}، والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة.
قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة.
وقال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف وصلاة وقوله تعالى: {خذوا زينتكم}، أمر وظاهره الوجوب وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة والطاواف وفي كل حال.
وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا} قال الكلبي كانت بنوا عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتًا ولا يأكلون دسمًا يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل وكلوا واشربوا يعني الدسم واللحم {ولا تسرفوا} يعني بتحريم ما لم يحرمه الله من أكل اللحم والدسم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت واشر ب ما شئت والبس ما شئت ما أخطأ بك خصلتان سرف ومخيلة وقال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وفي الآية دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع دليل في التحريم لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشارع وثبت تحريمه بدليل منفصل {إنه لا يحب المسرفين} يعني أن الله تعالى لا يحب من إسراف المأكول والمشروب والملبوس وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله تعالى عبارة عن رضاه عن العبد وأيضًا.
وإيصال الثواب إليه وإلا لم يحبه علم أنه تعالى ليس هو راض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف. اهـ.